(الفضاء نيوز) تنشر مقالة للامام الراحل الصادق المهدي حول فقة الحب
محتويات
مقدمة
بين الإيمان والحب
حب الوطن
تحابب المؤمنين
حب الذكر والأنثى
ختاماً
مقدمة
في الوجود المادي خمس طاقات: الشمسية، الجاذبية، الكهروبائية، النووية، والطاقة المباعدة بين أجرام الفضاء (عكس الجاذبية)، إنها مسخرة للإنسان. ونواميس الطبيعة هي أدوات هذا التسخير، وهي حقيقة لا وهم فيها: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ، واكتشاف نواميسها وتسخيرها متاح للإنسان من حيث هو إنسان.
المعرفة الإنسانية اكتشفت كثيراً من هذه الطاقات وسخرتها.
ولكن هناك طاقتان غير حسيتين هما الطاقة الروحية والطاقة العاطفية. الإنسان لا يعلم كنه هاتين الطاقتين ولكنه يعرف آثارهما.
بين الإيمان والحب
الإيمان بالله عبر الوحي والإلهام والتصديق حقيقة أثمرت الأديان، والأديان حقائق احتضنت الحضارات.
المشكلة الحقيقية في الحياة ليست الشقاء المادي، ولكن فراغها من المعنى. الإيمان وما يثمر عنه يعطي الحياة معنى. والإنسان بالإيمان يضاعف قدراته أضعافاً مضاعفة.
الإيمان لا يكون أبداً بلا عاطفة الحب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ) .
رسالات الأنبياء هي سفارات الإيمان بالله، والأنبياء هم سفراء الغيب، والإيمان بالرسالة تصحبه محبة للرسول لذلك في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: “لا يُؤمِنُ العبدُ حتَّى أَكونُ أحبَّ إِلَيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاس أَجْمعَين”، وفي رواية “وَمن نَفسِهِ” .
الحب حتى إذا خلا من إيمان يمنح صاحبه طاقة مضاعفة كما قال:
نحن قوم تذيبنا الأعين النجل على أننا في القتال نذيب الحديدا
فترانا في الكريهة أحراراً وفي السلم لدى الحسان عبيدا
وقال عمر بن معد يكرب عن الشجاعة التي أكسبها له ذكر لميس فصارع قائد جيش العدو:
لَمَّا رَأَيْتُ نِساءَنا يَفْحَصْنَ بالمَعْزاءِ شَدَّا
وبَدَتْ لَمِيسُ كأَنَّها بدرُ السَّماءِ إِذا تَبَدّى
وبَدَتْ مَحاسِنُها التي تَخْفَى، وكانَ الأَمْرُ جِدّا
نازَلْتُ كَبْشَهُمُ ولَمْ أَرَ مِن نِزالِ الكَبْشِ بُدّا
وقال شكسبير: “ما أقوى الحب فهو يجعل الوحش إنساناً، وحيناً يجعل الإنسان وحشاً”.
عاطفة الحب لا تختفي مع العمر، كما قال غابريل غارسيا ماركيز: يقولون الإنسان عندما يشيخ يفقد القدرة على الحب، أقول إنه لا يشيخ إلا عندما يفقدها.
وربما وجدت هذه العاطفة بصورة غير مشخصنة، فبعض الناس يعاملون الناس كافة بالمحبة، حسب ما جاء في مدح ابن عبد ربه للقائد أبي العباس:
وجه عليه من الحياء سكينة ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يوماً عبــــده ألقـــــى عليه محبة للناس
طاقة الحب العاطفية قد توجد بلا إيمان، ولكن الإيمان حتماً لا يخلو من المحبة:
قال قــوم إن المحــــــبة إثـــم ويح بعض القلوب ما أغباها
إن نفساً لم يشرق الحب فيها هـــي نفس لم تدر ما معناها
أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي وبالحـــــــب قد عرفت الله.
نعم الإيمان يوجب الطاعة وامتثال العبودية. طاعة العبودية تتطلب تنفيذ الأوامر، ولكن محبة الله بحر لا ساحل له كما قال:
قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير خفقٍ إلى ملكوت رب العالمينا
نعم طاعة الله توجب الامتثال لأوامره وتجنب نواهيه، ولكن قوة العلاقة بالله تتطلب بالإضافة للطاعة الوصال الروحي: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) .
معادلة الطاعة والوصال الروحاني قال عنها الإمام الشافعي:
فَقيهاً وَصوفِياً فَكُن لَيسَ واحِداً فَإِنّـــــــــــي وَحَقُ اللَهِ إيّاكَ أَنصَحُ
فَذَلِكَ قاَسٍ لَم يَذُق قَلبــُهُ تُقــــىً وَهَذا جَهولٌ كَيفَ ذو الجَهلِ يَصلُحُ
إن هذا الرفع لشأن الحب في العلاقة بالله قد أبرزته إحدى سيدات النساء رابعة العدوية:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبى عمّن سواكا
وقمت اناجيك يا مـــــن ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكا
احبك حبين.. حب الهوى وحبـــــاً لأنك اهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى فشغلى بذكرك عمن سواكا
واما الذى انــــــت أهل له فكشفك لى الحجب حتى أراكا
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا
ومن يريد نصاً بلا ادعاء لصاحبه وبلا مطالب، بل عرض حال محبة يجده في راتب الإمام المهدي الذي ينتهي بعنقود محبة: “فأنقذني ومن صحبني ومن أحبني على حب نبيك صلى الله عليه وسلم لأجلك”.
وبالرغم من خشونة الزهد ووعورة مسالك الجهاد التي سلكتها المهدية فإنها لم تؤثر على رقة المحبة المطلوب توفرها في العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين المسلم ورسوله، والعلاقة ما بين الأنصار، وفي العلاقة ما بينهم وبين قائدهم: فهم جميعاً أحباب الله، وأحباب في الله.
ويروى عن المهدي عليه السلام ذكره للجملة الرائجة في التراث الصوفي السوداني: “الما عنده محبة ما عنده الحبة”.
حب الوطن
ربما قامت علاقات محبة مع الجمادات لأسباب، كما قال القيرواني:
سألت الأرض لم جعلت مصلى ولم كانت لنا طهراً وطيبا
أجابت غير ناطـــــــقة بأني ضممت لكل إنسان حبيبا
ههنا أتحدث عن حب الوطن، وهو مهم للغاية، لا سيما في وجه من يرون تناقضاً بين حب الوطن والولاءات الأوسع. أنا مجتهد للتجديد دون قطيعة مع التراث. والنجاح في إقامة دولة وطنية حديثة حبها لا يتناقض مع الولاءات الأوسع.
الوطنية هي حب الوطن، وهو قيمة مطلوبة على نحو مقولة:
فالمرء قد ينسى المسيء المدعي والمـــــــحسنا
ومرارة الفقـــر المـــــذل بلـــــى ولـــذات الغنى
لكنـــه مهــــــما ســــلا هيهات يسلو الموطنا
لا معنى لإقامة دولة حديثة لا يصحبها حب الوطن.
تحابب المؤمنين
نعم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، والمحبة درجة أرقى من الإخاء، والتوجيه المستمر لها: “أفشوا السلام بينكم تحابوا”، “تَهادُوا تحابُّوا” ، وآيات الحب واجبة: “وجبَتْ محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ، وللمتزاورين فيَّ، وللمتباذلين فيَّ”.
هذا التحابب يمنع أن تكون العلاقة بين الناس قائمة على العنف والقهر، بل حتى الحيوان لا يتم التعامل معه بعنف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة: “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ. ”
والرفق مطلوب مع الأطفال، لا للعنف، ولا للتفرقة بينهم، ونعم لبذل المحبة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس سيد قومه ودخل الحسن بن علي رضي الله عنه، فقبله النَّبِيُّ ﷺ “فَقَالَ الأَقْرَعُ: أوَ تقبله؟ إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحدًا، فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ اللَّه ﷺ فقَالَ: مَن لا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ”.
وفي التراث المهدوي حرص على التحابب بين المؤمنين، فإضافة لمعاني المحبة في الراتب الذي يتلى في وقتي الإجابة وهما: قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. يكرر المهدي مخاطبة أصحابه أن يكون المرء منهم لين الجانب نحو أخوته المؤمنين، فهم جميعا أحباب الله وأحباب في الله، ولذلك حارب كل العادات التي تورث التنافر بين الناس، فلا يقتحم أحد بجواده الناس ولا يسل سيفه في غير موقف القتال. وكان يحث الأنصار على التحابب: ” ليس عليكم الا المحاببة والموافقة والمودة. “، “وتواددوا وتعاهدوا وتعاونوا على البر والتقوى وتحاببوا في الله”، “ولا تتحاسدوا ولا تتباغضوا ولا تتكبروا فتلك خصال أعداء الله فاجتنبوها” .
وكان الإمام المهدي يخاطب الأفراد والجماعات من الأنصار بعبارات المحبة، وهذه نماذج من مخاطباته لهم رجالاً ونساء: إلى “حبيبي”، “أحبابي”، ” حبيبي في الله”، إلى “حبيبتي في الله”، “إلى حبيبتنا”، “إلى أحبابه المؤمنين وخصوصاً جدتهم محبتنا المبروكة”، ” أحبابي في الله وأتباعي على سكة رسول الله”، “أحبابه الصادقين”.. وهكذا.
حب الذكر والأنثى
منذ آدم وحواء، فإن العلاقة بين الذكر والأنثى أساس التوالد وحفظ النوع.
أساطير فلسفة اليونان تحتوي على كثير من الرؤى الكاشفة للحالة الإنسانية. قال أفلاطون: كان الإنسان الأول شكلاً كروياً انقسم إلى قسمين فصارا يبحثان عن بعضهما بعضاً.
الغريزة تدفع الكائنات الحية نحو بعضها الآخر لكي تتوالد.
أبسط أنواع التوالد في الحياة هو الانشطار الأميبي. وهنالك تكاثر استنساخي يمارسه بعض النمل في الأمازون، وهنالك تكاثر من جنسين في كائن واحد (هيرمافرودايت) ولكن أبدع التكاثر في عالم النبات والحيوان هو بين ذكر وأنثى.
الاتصال الجنسي النباتي والحيواني توالدي، ففي عالم الحيوان لا تقبل الأنثى الذكر إلا إذا كانت مستعدة للقاح. ولكن العلاقة الجنسية بين البشر صارت للتوالد وزيادة، بحيث يمكن أن يتم الجماع دون فترة الخصوبة للقاح. كذلك تنفرد حالة الجماع البشري بأنها تتم وجهاً لوجه، والوجه صحيفة مشاعر ما يجعل في الأمر عنصراً آخر غير التوالد، عنصر توافق عاطفي.
العلاقة بين الذكر والأنثى في مجال البشر تدخل فيها العاطفة، وحرية الإرادة بل والتوافق الروحي، عوامل تدخل في مفهوم الحب.
والعلاقة الزوجية لا تقف عند شروط عقد النكاح، بل تتطلب رابطة المحبة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ، هذه هي علاقة المحبة. والمدخل إليها قبل الزواج. روى ابن ماجة حديثاً مسنوداً لأبي خثيمة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: “لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ”، ما يعني وجود القبول قبل الزواج وهو ما يشير إليه كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ “.
كثيرون يخرجون على هذه التربية ولقوله تعالى (وَاضْرِبُوهُنَّ) يواصلون الضرب. أولاً الضرب في حالة النشاز وهو التمرد، ثانياً الآيات منها محكم ومتشابه، المحكم ما وافق مقاصد الشريعة، وفي الزواج فإن مقاصد الشريعة هي المودة والرحمة. فآلية إزالة الخلاف الأخرى هي التحكيم: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) ، وقال نبي الرحمة: ” أَمَا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ.. يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَار، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا آخِرَهُ” ؟
القوامة تعني القيام نحوها بالواجب لا التحكم فيها.
علماء النفس والاجتماع تناولوا الحب بحثاً وتحليلاً، وفي تراثنا كتب كثيرون، كابن حزم وابن القيم والسيوطي وغيرهم.
بعض الفضائيات والوسائط الاجتماعية مسايرة للثقافة النفاثة سطحوا الحب، وصارت عبارة ممارسة الحب هي ممارسة الجنس.
يمكن أن يحدث توالد بلا حب، وللأسف الزواج القسري، وزواج الطفلات ينطبق عليه هذا التوالد، ويرجى الإسراع بقانون أحوال شخصية جديد في بلادنا لتحريم زواج الطفلات وزواج الإجبار، مواصلة لبركات الثورة لنساء السودان بعد أن تم في مايو الماضي تحريم تلك الممارسة المتخلفة خفض عضو الأنوثة المسمى خفاض وهو خفض.
لقد درست قانون الأحوال الشخصية الحالي ونشرت نتيجة دراستي في كتاب “حقوق المرأة الإسلامية والإنسانية” وقد وجدت نصوصه متخلفة عن القراءة المستنيرة للدين، متعارضة مع سيرة المصطفى رسول الإنسانية، مضادة لحقوق المرأة التي أقرتها مواثيق العصر الحديث، بل متخلفة حتى عن الواقع السوداني.
المهدية منعت زواج الجبر وأقرت أن العلاقات بين الناس يجب أن تكون روحية وليست جسدية وأن الزواج غير المبني على التوافق يعطل صاحبه، لذلك راجع المهدي حبيبه المادح محمد التويم في الزواج من امرأة كارهة له فقال: “وما دام أنت حبيبنا إلى قدام، فما نرضى لك ما يفصلك ويبعدك منا لسبب الصهارات التي ليس بها وصال الروح ولاهي سبب الفتوح بل ربما غرت وضرت ومرت” ، ونفس الشيء مع حبيبه وصفيه إدريس عواض الذي طالبه بتطليق المرأة التي تزوجها رغم معارضتها قائلاً: “ولو أن هذه المرأة رضيت بك لكان أحب إلي ولكن لما أنها لم ترض ويتهمون بعدم إمضاء العفو بجبرهم عليك فلا يليق”، وقال له: “الجيزة نسوانية” . أي لازم فيها رضا النساء. والإمام أبو حنيفة استنكر قائلاً: كيف يعطي الله المرأة حق التصرف في مالها ولا يعطيها حق التصرف في نفسها؟ إن هذه التناقضات المضحكة لا تليق بالشريعة الإسلامية.
علامات الحب
للحب الحقيقي علامات أهمها:
– إدمان النظر للمحبوب:
أهي شيء لا تمله العين أم لها في كل ساعة تجديد؟
– روعة تبدو على المحب عند سماع اسم المحبوب:
كأن فؤادي في براثن طائر إذا ذكرت ليلي يشد به قبض
– الإقبال على الحديث معه وتصديقه فيما يقول:
ثق يا حبيبي انك بــــــراك مالــــي الفؤاد بي مجملو
ومهما الزمن زاد في جفاك برضو بنشوف عذرك حلو
نفديك بي غالي المهــج نــــــديك عمـــرنا تكملو
– الزمن في حضرة المحبين يتلاشى:
الليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها.
وكرر ذكر هذه الصفة الإمام المهدي في مجالسه: “الشي الحابه الزمن الطويل يبقاله قصير”.
– لا ترى له/ لها عيوباً:
عين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئا
– تكذيب الوشاة:
وحدثتني في عيب ليلى نسوة جعل الإله خدودهن نعالها
هذه خمس علامات، ولكن هنالك تسلية بالحب كما في أشعار عمر بن أبي ربيعة في القديم:
سلام عليها إن أرادت سلامنا وإن لم ترده فالسلام على الأخرى
وقال للخروج من ورطة:
فكان مجني دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
فَلَمّا أَجَزنا ساحَةَ الحَيِّ قُلنَ لي أَلَـــم تَتَّقِ الأَعداءَ وَاللَيلُ مُقمِرُ
وَقُلنَ أَهَذا دَأبُكَ الدَهرَ سادِراً أَما تَستَحي أَو تَرعَوي أَو تُفَكِّرُ
إِذا جِئت فَاِمنَح طَرفَ عَينَيكَ غَيرَنا لِكَي يَحسِبوا أَنَّ الهَوى حَيثُ تَنظُرُ
ونفس النمط، أي التسلية بالحب في الحديث أشعار نزار قباني، قال:
وكلما انفصلت عن واحدة
أقول في سذاجة
سوف تكون المرأة الأخيرة
والمرة الأخيرة
وبعدها سقطت في الغرام ألف مرة
ومت ألف مرة
ولم أزل أقول
” تلك المرة الأخيرة ”
وقال:
كتبت فوق الريح
اسم التي أحبها
كتبت فوق الماء
لم أدر أن الريح
لا تحسن الإصغاء
لم أدر أن الماء
لا يحفظ الأسماء
هؤلاء المتسلون بالحب.
وهنالك الذين بلا عاطفة حقيقية يتخذونه مدخلاً للقصائد على نحو ما جاء في قصيدة كعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وهنالك التعبير عن الشبق، فلا حب ولكن مجرد عرض حال:
كأن بها ضغناً على العقل إذا حضرت ذهب العقل!
وهناك شعر لا يذكر حباً بل علاقات ماجنة كبعض شعر عمر بن أبي ربيعة، وبعض شعر امرؤ القيس قديماً، وبعض شعر نزار قباني حديثاً. وفي السودان قصائد لبعض فحول شعرائنا تقع في هذا الضرب خاصة شعراء المسادير.
وهذا ينطبق على بعض أشعار الحقيبة التي رأيت أن نسميها ذخيرة الفن.
كما قال ود الرضي بعد توبته يعلن، مجاملة لصديق لا تعبير عن شعور:
يعاﻳﻨﻦ ﺗﻮﺑﺘﻲ ﻓﻲ ﻛﺎﻣﻦ
ﺿﻤﻴﺮﻱ ﻭﻳﻤﺤﻦ
ﻭﺍﻟﺸﺎﻑ ﻓﺎﺗﻦ ﺟﻤﺎﻟﻦ
ﻭﺇﻧﺘﺸﺎﺭﻥ ﻳﻤﺤﻦ
ﻗﻠﻮﺑﺎً ﻣﺎ ﺇﻧﻜﻮﻥ ﺑﻲ ﻧﺎﺭ
ﻏﺮﺍﻣﻦ ﻗﻤﺤﻦ
ﺍﻟﻠﻪ ﻳﻜﺒﺮﻥ ﺍﻟﻜﺒﺮﻧﻲ ﻭﺳﻤﺤﻦ
وأختم هذه الشواهد باقتباس من قصيدتين في ذخيرة الفن تبوحان صدقاً:
قصيدة عمر البنا (أنا صادق في حبك) وفيها:
أنا صادق في حبك لو قلبي
يتصل بي قلبك هذا مقصودي
أنا أقصد ودك وإنت تحرمني
النظر في خدك .. لأذاي
ديمه بازل جهدك مع علمك بهواك
منذ أيام مهدك..
إنت مريودي
..
وقصيدة (بلاقيه)، وفيها:
حبيبي غاب في موضع الجمال بلاقيه
معناه در بلاقيه
في ضوء البدر بلاقيه
في ليلة القدر بلاقيه
..
في نور لو ظهر بلاقيه
في ماء النهر بلاقيه
في عرف الزهر بلاقيه
..
مع ضي سناه بلاقيه
زانه الاله بلاقيه
في معنى الحياة بلاقيه
ختاماً
الحب عاطفة حقيقية، وتجانس روحي بصورة:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
ولكن كل شيء قيم تلحق به آفات. هذه الآفات أضرت بسمعة عاطفة نبيلة كما تمثلها أشعار عنترة:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
من دليل على صدق عنترة في الشجاعة والحب قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: “ما وُصِفَ لي أعرابيٌّ قطُّ فأحببتُ أن أراهُ إلا عنترةَ” .
إن للحب أثراً ايجابياً في تهذيب المحبين والتعامل الاجتماعي المهذب، صحيح إننا الآن نواجه أزمة لأن التوافق الذي ينشأ بين الشبان والشابات يواجه صعوبة الزواج للظروف الاجتماعية الحالية.
ينبغي الاجتهاد لإيجاد صيغة للزواج الميسر تسمح للمتحابين بالتعاقد الشرعي مع التخلي عن العادات المكلفة التي يفرضها المجتمع الآن.
نعم يمكن للحب أن يصير مدخلاً لممارسات خاطئة ولكن الحب كالغناء وكالشعر وككل ممارسات الإنسانية حسنه حسن وقبيحه قبيح، وعلى المجتمع أن يهيئ الظروف التي تنقذ الشباب من أنفسهم بإتاحة الفرصة للحب الحميد.
كل المراجع المشار إليها آنفاً تشير إلى الاعتراف بالحب كحقيقة عاطفية في الحياة، وينبغي كذلك الاعتراف بالتعبير الفني عن المشاعر الإنسانية.
البشرية كلها محتاجة لعاطفة الحب، وهي في كل المستويات تتطلب جرعات من الحنان إلى جانب الإيمان لتتوازن الحياة، فإن جف الحنان وغابت المحبة فسوف يصاب الإنسان بجفاف وتصحر عاطفي يجعل الحياة سوط عذاب، يهرب منه التعساء بالمخدرات والمسكرات أو حتى بالانتحار.