تقديم كتاب:” رجال من دار الريح ” للأستاذ محمد التجاني قش بقلم السفير/ د. خالد محمد فرح
رصد _ السلطة
تقديم كتاب: ” رجال من دار الريح ” للأستاذ محمد التجاني قش
بقلم السفير/ د. خالد محمد فرح
طلب إلي الأستاذ محمد التجاني عمر قش ، الأخ والصديق والزميل ” السينيَر “، الذي كان يسبقني بدفعتين في مدرسة خورطقت الثانوية ، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي ، وفي جامعة الخرطوم أيضاً في النصف الأول من ثمانينيات ذات القرن ، أن أكتب تقديماً لسفره هذا الموسوم ب ” رجالٌ من دار الريح “. وما كان لي بالطبع ، أن أرد طلباً لهذا الأخ والزميل الفاضل ، والإنسان المهذب والنبيل ، والباحث المجتهد والمثابر ، والمثقف الواعي والمدرك لدوره ، والمرتبط ارتباطاً وثيقاً ، وجدانياً وعقلياً بماضي وحاضر ومستقبل مجتمعه الصغير في بوادي شمال كردفان وأريافها ومدنها ، انطلاقاً منها إلى ملامسة هموم وانشغالات وتطلعات سائر أرجاء الوطن الكبير: السودان. فله مني من الشكر أجزله ، ومن العرفان أخلصه على ما أولاني من ثقة وتقدير معتبريْن.
على أنه ربما تبادر إلى بعض قراء هذا الكتاب ، أن إقدامي على كتابة هذا التقديم لهذا السفر، واحتفائي الشخصي به ، يجئ فقط من قبيل ذلك المثل الذي يقول ما معناه: تشهد لجمال العروسة وتطري حسنها مزينتها وأمها وخالتها ، وذلك على اعتبار أن المؤلف قد استشهد في كتابه هذا – على سبيل المثال – برأي لي في موضع ما من مواضع الكتاب ، كما أنه جعل مقالاً لي منشور بعنوان: ” عن غانميْ الطبقات الكُردفانييْن “، أحد ملاحق الكتاب أيضا.
وليس الأمر هو كذلك بتاتاً في الواقع ، ولكن الموضوعية المحضة نفسها تحتم علينا، أن نُقر بأن هذا السفر هو قمين بكل احتفاء وتقدير. فقد جاء لكي يسد ثغرة مهمة في التاريخ الاجتماعي لهذا الجزء العزيز من أرض سودان وادي النيل ، ألا وهي منطقة ” دار الريح ” من ولاية شمال كردفان ، التي ظل يتحاماها ” المؤرخون الرسميون “، والباحثون المدرسيون في سائر العلوم الإنسانية كما هو مُلاحظ بصفة عامة ، وذلك لعدة أسباب ، لعل من أهمها كون أنها لم تشتهر ككيان ذي هيكل سلطوي مركزي مستقل وواضح الملامح والمعالم ، على نحو ما كان عليه الوضع في سلطنتي الفونج والفور ، حيث أنها قد مثلت خصوصاً خلال جزء كبير من القرنين الأخيرين اللذين سبقا غزو إسماعيل كامل بن محمد علي باشا لأرض السودان في في عام 1820م ، عظم تنازع بين تينك السلطنتين لبسط السيادة عليها.
أما المصطلح ” دار الريح ” لغوياً ، فمعناه: بلاد الريح ، أي اتجاه الشمال مطلقاً في عربية غرب السودان بصفة عامة. والراجح أنهم أسموا الشمال ريحاً لأنه الاتجاه الذي تهب منه ريح الشمال الباردة خصوصا، مثلما أنهم أسموا اتجاه الشرق ” صباح ” لأنه الاتجاه الذي يكون منه شروق الشمس المؤذن بانبلاج الصباح، ونظراً للتلازم الموضوعي بين وقت الصبح واتجاه الشرق. وبهذه المناسبة، فإن المصطلح ” دار الريح “، يبدو أنه كان معروفاً ومستخدماً بذات الدلالة في سلطنة دارفور أيضا. ذلك بأن الشيخ محمد بن عمر التونسي قد ذكر في كتابه: ” تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان: ” دار الريح ” ، باعتبارها واحدة من الأقسام الإدارية لتلك السلطنة حين وصوله إليها في عام 1803م.
لقد أخذ الأستاذ محمد التجاني عمر قش زمام المبادرة في سفره هذا ، فعمد إلى تدوين ما تناهى إلى سمعه أو اطلع عليه مكتوباً ، من روايات وأخبار وحكايات ذات صلة بحركة الدعوة الإسلامية ، والتعليم الديني ، والفقه والقضاء والتصوف ورموزها في منطقة ” دار الريح ” بصفة خاصة. وحدد المؤلف هدفه من دراسته الأولية هذه ، لكي يقرر بكل تواضع محمود قائلاً: ” وفي هذا الصدد نود التأكيد على أن القصد هو إيراد معلومات أساسية عن بعض الرجال ، بحيث نوفر مادة قابلة للتقصي والدراسة مستقبلا ، من قبل المهتمين بهذا المجال ” أ. هـ ، كما ظل المؤلف يكرر رجاءه في أكثر من موضع من الكتاب إلى جميع من يعرف معلومة ذات صلة بتلك المباحث أن يمده بها.
أما منطقة ” دار الريح ” التي تدور حولها هذه الدراسة الرائدة حقاً في بابها ، حول سير وتراجم بعض رموزها وأعيانها في مجالات العلم والفقه والتصوف ، فهي بحسب تعريف مؤلفها نفسه: منطقة بارا الكبرى ، أو ما كان يُعرف بريفي دار حامد ، الذي يتألف جل سكانه من قبيلة ” دار حامد ” الفزارية بفروعها المختلفة ، بما فيها فرع ” الفَراحنَة ” الذين ينتمي المؤلف نفسه إلى بيت الزعامة فيه ، بالإضافة إلى بعض القبائل الأخرى المهاجرة إلى تلك المنطقة من شمال السودان خصوصاً ، والتي استوطنت منطقة سلسلة واحات ” الخيران ” مثل: الركابية ، والجوابرة ، والدناقلة ، والبديرية ، وغيرهم.
على أن النطاق المكاني للدراسة قد يتمدد إلى الشرق قليلاً من تلك المنطقة أحياناً ، لكي يتناول سير عدد من الأعلام في ديار الجوامعة بالتحديد ، بالإضافة إلى مساكنيهم من بعض القبائل الأخرى مثل: الشويحات ، والبديرية ، والهوارة ، والجعليين ، والمشايخة ، والبزعة ، والجمع وغيرهم.
وأما الحيز الزماني للدراسة ، فيلاحظ عليه بصفة عامة أنه يبدأ في أبعد التواريخ المرتبطة بأحداثها إلى أواخر عهد الفونج ، أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي فصاعدا ، مروراً بعهدي التركية والمهدية ، ثم فترة الحكم الثنائي ، وصولاً إلى التاريخ المعاصر. ذلك بأن أقدم شيخ تاريخه معلوم بالنسبة لنا ، ورد ذكره في هذا البحث مرتبطاً بسيرة بعض الأعلام المذكورين فيه ، هو الشيخ ” عبد الباقي النيل ” الكاهلي ، راجل ” أم قرقور ” بالنيل الأبيض. فهذا الشيخ ” عبد الباقي النيل ” ، قد ورد ذكره عرضاً في كتاب: الطبقات لمحمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810م ، وذلك في معرض ترجمة ود ضيف الله للشيخ ” عبد الله ود العجوز ” ، باعتباره أحد تلاميذ الشيخ عبد الله ود العجوز المذكور.
لقد شدني عنوان هذا الكتاب في الواقع ، واجتذبني بقوة للاطلاع على محتواه ، بدافع ذاتي أو عاطفي إن شئت. ذلك بأنني أنا الآخر من أبناء ” دار الريح “المعنية. ففيها نشأت وترعرت ، وقضيت كل طفولتي وصباي الباكر بين ربوعها وكثبانها العفر. ثم إنني خاصةً ، قد أتيحت لي الفرصة كغيري من أبناء معلمي المدارس الإبتدائية في أرياف السودان سابقاً ، فتجولت مع الوالد عليه رحمة الله وبقية أفراد الأسرة ، بين عدد معتبر من قرى دار الريح من أقصاها إلى أدناها ، حيث عمل أبي مدرسا ثم ناظراً بمدارسها من لدن ” شريم الكرامشة ” شمالاً ، إلى ” تفنتارة ” جنوباً ، ومن أم دم حاج أحمد شرقاً إلى مدينة الرهد غرباً ، وما بين ذلك من عدد آخر من القرى مثل:أم صميمة ، وكجرت ” المزدلفة ” ، والزريقة القيزان ، وحمدان ، والزريقة الفكي ، فصار لنا فيها جميعاً ، معارف وأهل وأصدقاء وتلاميذ كثر للوالد ، ما يزالون يراعونه حقه من المودة والوفاء والذكرى الطيبة إلى الآن.
هذا ، وما زلت أتذكر ، كما يتذكر الكثيرون من أبناء جيلي ، ذلك المقطع الشجي من غناء الجراري الذي يمجد ” دار الريح ”
ويمتدحها قائلاً:
دار الريح تاريها
مشتولة المنقة فيها
بشيل الجوز بسقيها
وبحاحي الطير ما يجيها
كما أنني أتذكر – والشئ بالشئ يُذكر – أننا عندما كنا تلاميذ صغاراً بمدرسة أم دم حاج احمد الإبتدائية في حوالي السنة الثالثة أو الرابعة ، أصدرنا صحيفة حائطية أسميناها ” دار الريح ” هكذا. كنا نحررها نحن ثلة من أبناء فصلنا النابهين ، بينما كان يخرجها لنا فنياً ، ويرسم لنا لوحاتها ، ويضع لنا خطوطها ، أخونا وزميلنا التجاني عبد الحافظ الأصم حياه الله ، الذي كان مشهوراً بجودة الخط مثل أبيه الفكي عبد الحافظ ، وجده أحمد أفندي رحمهما الله تعالى.
ولذلك فإن كل سطر خطه يراع المؤلف في هذا الكتاب ، يعني لي أنا شخصياً الكثير ، معرفياً وثقافياً واجتماعياً ، بل إنني في الواقع قد طرقت أذني أطراف كثيرة من جل الروايات والمعلومات التي أوردها الأستاذ محمد قش هاهنا بطريقة أو بأخرى ، فقد كنت منذ الطفولة حلس مجالس الوالد عليه رحمة الله وأصدقائه وأخلائه من جدودنا واعمامنا الذين مضوا إلى دار الخلود ، فضلا عن بعض الروايات التي سمعتها أو اطلعت عليها لاحقا . غير أنني أحمد للأستاذ قش بالطبع ، اهتمامه بتلك الروايات والمعلومات ، وجمعها ، وتنقيحها ، وسلكها في سياق سردي سلس وممتع ، وقابل للتعاطي العلمي النقدي معه ، بوصفه جزءً من التاريخ الاجتماعي والثقافي البازخ لتلك المنطقة ، والذي ما يزال في تقديرنا ، في مسيس الحاجة إلى المزيد من البحث والتنقيب ، من أجل الكشف عن كنوزه الباهرة ، كما دعا المؤلف نفسه إلى ذلك محقا.
فالشكر الجزيل نزجيه مجددا للأستاذ محمد التجاني على إصدار هذا السفر المفيد والممتع ، وهنيئاً لعامة القراء به.
خالد محمد فرح الفحل
يوليو 2020م
وقد صدر هذا الكتاب بالفعل عن دار آريثيريا للنشر والتوزيع بالخرطوم في العام المنصرم 2023م.