فضلي جماع يكتب _حول وجه الحرب البشع
رصد _ السلطة
ضمير الأمة الوطني والكاتب فضيلي جماع، يضبط البوصلة كما عودنا برسالة لصنّاع الوعي ، حول وجه الحرب البشع.
_فضيلي جماع :
يا أدعياء صناعة الوعي:
أخرجوا من صمتكم المريب
للحرب وجه واحد منذ أن عرف الإنسان الحياة على ظهر هذا الكوكب – الوجه البشع.
قد تتفاوت بشاعة الحروب بتفاوت درجات الدمار، لكن تبقى المحصلة واحدة.
أسوأ ما فيها: موت الأبرياء الذين لا ناقة لهم في إشعال أتون الحرب ولا جمل، ومن سيئات محصلة الحرب أنّ من أشعلوا أوارها يتصافحون ذات يوم بحجة أن الواجب الوطني (كما في حالة السودان ) أو الضرورة الإنسانية ومصلحة الشعوب -كما في الحروب الإقليمية – قضت أن تغلب الحكمة وأن تقف الحرب، وأن تتصافح الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء.
وما يجري في السودان منذ عشرة أشهر ليس بدعاً ولا هو بالجديد في تاريخ عسكر السودان، فمتى كثر السلاح واكتظت الميادين والساحات بطوابير العسكر، ومتى كثرت صفقات السلاح فاعلم أن حرباً ما تلوح في الأفق، وهذا ما سبق هذه الحرب والكل نيام.
في تاريخ أمتنا الحديثة – أعني منذ بزوغ فجر الإستقلال حتى تاريخ كتابة هذه السطور – يفوق عدد سنوات الحرب والموت والدمار سنوات الإستقرار أضعافاً مضاعفة، فمن بين 68 عاماً من الإستقلال فاق عدد السنوات التي ملأ فيها سماواتنا أزيز الطيران الحربي وهدير المدافع وجلالات الجيش – فاق عدد سنوات منظومة الدمار العسكرية سنوات الطمأنينة والهدوء عشرات المرات.
إنّ مأساة المآسي أن كل ذلك الحشد وكل تلك الحروب كانت ولما تزل ضد عدو واحد هو الشعب السوداني، تصوروا جيشاً لم يشهر البندقية مرة واحدة في وجه عدو أجنبي، ورغما عن كل ذلك نسمع اليوم صراخ حلاقيم بعض المغفلين وهم يرددون: (جيش واحد شعب واحد )
.
أريد في هذه الخاطرة أن ألفت الإنتباه إلى أمر أرى من الضرورة الإنتباه له، لقد لاحظت طوال أشهر هذه الحرب التي كادت تدخل عامها الثاني أن تعامل الكثيرين معها – وأعني بالكثيرين هنا من يرجى أن يصنعوا الوعي – لاحظت أن تعامل هؤلاء مع الحرب ظل تعاملاً أقل ما يوصف به الإصطفاف سرا أو علنا مع هذا الفيلق أو ذاك، ليس هذا فحسب ، بل إنّ العويل والبكاء على البيت والمدينة التي نزحوا منها ظل رأس القضية.
وكأن جيش السودان لم يحرق مئات القرى ويعتدي على المدنيين العزل ويغتصب ويقتل دون رحمة ما كانت حصيلته في الجنوب – سابقاً – فوق المليونين، وأباد ثلاثمائة ألف في دار فور، وحصب أطفال الكهوف في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بالقنابل وبالبراميل المتفجرة.
ذكر هذا الملف لا يعني طبعا أن ما حدث في عاصمة البلاد بمدنها الثلاثة وفي الجزيرة أمر ينبغي تجاهله أو تصغير شأنه، لكن – والخطاب موجه لأدعياء الكتابة والثقافة والساسة الذين يبدو أن عينهم ما تزال على حصتهم من كيكة السلطة أكبر من هم ضحايا هذه الحروب.
هنالك صمت رهيب، يحدث قصف بالطائرات مرارا وتكرارا في غرب ووسط وشرق دار فور لمدنيين أبرياء ولا تطلع إدانة للجيش الذي يعرف القاصي والداني أنه مجرد مليشيا كيزانية يقودها ضباط مؤدلجون ويوجه الحرب أمراء حزب يعرف قادته أن وقف الحرب يعني زوال حلم الأخوان المسلمين بالعودة للسلطة إلى الأبد.
ثم تقطع رؤوس شباب مدنيين في طريقهم إلى مدينتهم (ود الحداد في الحزيرة)، يقطعها عسكر الجيش – جيش الكيزان ويلوحون بها دون مراعاة لحرمة الموت، والساسة والمثقفون صامتون، ثم إن جيش الكيزان في حيرته الآن يقوم بحشد وعسكرة الأطفال ليخوضوا الحرب دفاعا عمن تنعم أسرهم وأبناؤهم في بلاد الدنيا برخو العيش ونعيمه.
متى تقوم عصبة من الساسة والحقوقيين برفع شكوى للمنظومة الدولية لتجريم مليشيا كيزانية ترتكب أفظع الجرائم في حق الشعب السوداني باسم جيش وطني لا وجود له منذ سطا الأخوان المسلمون على السلطة بليل عام 1989م؟
نصيحة أخيرة لمن زحموا الآفاق من قبل بأنهم حقوقيون ومثقفون وساسة حريصون على السودان وشعب السودان، أخرجوا من صمتكم المريب، لقد صمتم عن الكلام عن جرائم الجيش منذ العام 1955 حتى انفصل الجنوب، ولم يقل (لا) سوى القليل منكم في حرب الجيش على إنسان الهامش العريض.
واليوم يقف بعضكم مع جيش الكيزان بحجة أنه جيش وطني يخوض حرباً ضد مرتزقة قدموا من تشاد والنيجر، إستحوا فالدعم السريع صنيعة جيشكم وابن صلبه، ولأنه شق عصا الطاعة فإن الجيش في حيرته يعلنها صريحة أن الكتائب والمليشيات الكيزانية ( كتائب البراء وغيرها) جزء لا يتجزأ منه.
فلنقل لا للحرب، ولتقم الجبهة المدنية العريضة أيا كان اسمها ليعلم الكل أن شعبنا الذي صنع ثورة ديسمبر التي بهرت العالم لا يزال واعياً وضد الحرب والدمار ، وضد من يحلمون بالعودة للحكم فوق ظهر دبابة.
فضيلي جمّاع
لندن- 27 فبراير 2024