بلة البكري يكتب _نوستالجيا_الأمْكِنة_الرَّهَد_أبودَكَنة_وكِرام_الأزوال
رصد _ السلطة
=نوستالجيا_الأمْكِنة_الرَّهَد_أبودَكَنة_وكِرام_الأزوال .
بقلم : بلة البكري
مدخل
جاء في تعريف “نوستالجيا” (Nostalgia)في “ويكيبيديا الموسوعة الحرّة” أنها كلمة يونانية الأصل تستخدم كمصطلح لوصف الحنين إلي الماضي وتشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد.
#مشهد_أول
الزمان العام 1975 في مدرسة خورطقّت الثانوية.
علق بذهني حديث للشاعر الأستاذ السر دوليب في الذكرى الأولي لليوبيل الفضِّي لمدرسة خورطقت الثانوية وكنا وقتها في سنوات التكوين الأولى (جونيرزس( وقف الاستاذ الشاعر (والذي هو من خريجي تلك المدرسة العريقة) على خشبة المسرح الفخيم متحدثا فقال: “جئنا في العام الماضي لحضور اليوبيل الفضِّي لمدرسة خورطقت العريقة؛ وجئنا هذا العام بنفس الشوق نكاد نعانق الجُدران”.
هذا ما علق بالذاكرة (paraphrased) في بعضه ربما لطول المدّة ولكن خلّده في نفسي وذهني عبارة “نكاد نعانق الجدران” وما بها من وصفٍ بلاغي مدهش لحمّى الحنين للمكان (نوستالجيا) والذي يتحول في مخيلة الفرد مع طول الوقت الى كائن حي نهفو للقائه وعناقه. وقد قال شاعر آخر – لعله الشريف الرضي – في موقف مشابه:
” وتلفَّتَتْ عيني فمُذ خَفِيتْ ** عَنها الطّلولُ تلفّتَ القلبُ”
وقالت شاعرة مجهولة من بادية كردفان (بقرينة اللهجة)
(يتذكر) يَحِنْ لِيكْ ؤ يِطَّرَى
يِدَافِر تَقُول فِرّة
كما الضُّلوع حابْسَاهْ
مِنْ شُوقَه يَطير بَرّه
والمدهش هنا في هذه المقطوعة الشعرية الرائعة أن الُمخاطَب غائب (شخص أو مكان حبيب على النفس ربما ) تمت الإشارة له بضمير الغائب “لِيك” والمُشَبَّه غائب أيضا لم تفصح عنه الشاعرة لكنه حاضر بوصفه الدقيق الذي يدل على مكانه (بين الضلوع) ومدافرته التي تشبه مدافرة طائر “الفِرَّة” .يا للروعة.
#مشهد_ثاني_الرَّهَد (#أبودَكَنَة)
هي إحدى مدن شمال كردفان وهي عاصمة محلية الرَهَدْ حاليا. تقبع هناك، في سفح جبل الدايِر على الشمال منه، منذ مئات السنين في الحد الفاصل بين القوز شمالا والطين جنوبا. وقد اتخذت هيأتها الحالية واسمها منذ دخول خط السكك الحديدة اليها في حوالي عام 1912 ويمر بها حاليا طريق الأسفلت للأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان.
يصب في بحيرتها، التي تعرف بالتُرْدَة، نهران موسميان هما خور أبو حَبِل الشهير وخور أم تقرْقَر، وقد مرت التُردة بسنوات جفاف في فترة الستينات.
وتحد المدينة عدة قرى منها الأنضرابة والرجيلة وقوز بشارة وسدرة والقردود في سفح جبل الداير والبراغيت (حيث دفن الشريف محمد الأمين القرشي في فترة المهدية) والذي استقدمه المهدي في بداية الثورة المهدية .
وهناك على البعد منها اللة كريم والسِّميح و أم سِريحة شرقا وعرديبة وبريمة النار والحِقينة والدويمة (عاصمة الغديات في فترة تاريخية مضت) وعُراضة وغُزِّي ومَجّو وأم بشّار غربا.،وفي الجهة الشمالية منها تجد أم هبيلة وأم سكينة والسواني والجفيل وفنقوقة وأبو سعد كدروكة وأم مطارق .
أرسلت تلك المدينة، قبل نصف قرن من الزمان، من بحث عني في ردهات الفَضْوة ودروبها، على مشارف دار الريح، لأحضر لأكمل تعليمي الأساس هناك بعد أن قضيت ثلاثة سنوات في المدرسة المجلسية (الصغرى) الوحيدة في بلدتنا.
وكنت قد ظننت أني حر طليق بعدها. فاحتقبت عصاي ممنياً نفسي بحرية الطير الخُداري في الخلاء أصحب أبي في رحلات صيد الغزلان أحيانا. التقط أبي الرسالة التي وصلت بالبريد من ناظر المدرسة الأوليّة (الأساس) بذكاء فطري اشتهر به.
وفي الحال اشترى لي مركوبا جديداً، قَطْع النِبِيط، وتوب دمور وبعض الأغراض اللازمة لسكنىى الداخليات وهرع بي الى هناك. استغرقت رحتلنا قرابة اليومين مرورا بأم روابي (كما كانت تنطقها جدتي بت سِماعين) والتي تعرف الآن باسم “أم روابة” .
وقد قال أحد الهمباتة في زمان مضى وهو مسوق اليها للسجن “مكلبش” بعد أن تمّ القبض عليه فيما يبدو:
أم روابي البعيدي وما بعيدةً جَبْدَة
والكلباش أب زَرَدْ في إيديّا عامل جَضّة
والكلباش هو قيد من الحديد الثقيل يوضع على أرجل وأيدي بعض المساجين و”الجَضّة” تعني ذلك الصوت الذي يحدثه الحديد مع حركة المسجون.
وصلنا الرهد عصرا وتوجهنا مباشرة للمدرسة وقد كنا متأخرين عدّة أسابيع من بداية العام الدراسي 1968م على مشارف الدَّرَتْ تقريبا في ذلك العام.
ولذلك التأخير والغياب (أو التغييب المتعمّد) من الدراسة الذي استغرق عاما ونيف قصة أشبه بالمؤامرة سنأتي على ذكر أسبابها يوما! إحتج الناظر أحمد الجُزولي، والذي كان مربياً فاضلاً من أهل رفاعة، متعه الله بالعافية، وأنّب أبي قائلا له لماذا تأخرتم في الحضور هكذا يا شيخ؟ التلاميذ دفعته فاتوه كتير خالص وربما رَسَب في امتحان الشهادة المتوسطة؛ وهل عندك مانع أن يعيد العام إذا لزم الأمر؟ فابتسم أبي ابتسامة انطبعت في ذاكرتي اليافعة الى الأبد وقال للناظر بثقة تامة، وبلهجة ريفية أصيلة، في تلك الديار: ” وَلدِي بلحكُّم إني خَابْرُه بالحِيل، كان بقت على دِي هيني تَبْ يا حضرة الناظر، وما تخاف منّها دُتْ دُتْ”! ابتسم الناظر والذي يبدو أن الثقة المفرطة التي رآها في عبارات الوالد، وأصالة اللغة التي حملتها كلماته، قد حسمت له الأمر تماما؛ فتمّ قبولي على الفور لالتحق بالصف الرابع إبتدائي (أساس). ودّعني أبي في ذلك المكان وتركنا واقفين أنا والناظر؛ ولم ينس أن يلتفت إلينا وهو يبتعد لتلتقي عينانا وكأنه يقول لي أعلم أنني حملتك مسئولية، فأعذرني. رحمه الله، فقد فجّرت ثقته المفرطة في دواخلي طاقةً كامنة لم أكن أعلم أني أملكها – طاقة لا زلت اقتات منها الى يوم الناس هذا. ومن هنا أحيي أستاذي أحمد الجزولي واسرته الكريمة تحية خاصة.
#نوستالجيا_المكان
أما الرَهَد المدينة، نفسها، فتلك بقعةٌ ساحرةٌ، ماكرة، انطبعت في ذاكرتي الى الأبد. لا زلت أحنُّ الى صوت المؤذن فيها، والذي لم أسمع صوتا دينيا عذبا كصوته، في العالم كله، منذ أن فارقتُ المدينة والى قراءة مولانا الأمام، العالم، العَلَم، حسين أحمد البدوي، عليهما الرحمة، والتي حببّت إلينا الذهاب للمسجد الكبير، أيام الجمعة، في ذلك العمر المبكِّر؛ وإلى ضجيج السوق فيها وأصوات الباعة، تتخللها تلك اللغة الرخيمة التي تتناغم بها بائعات الفول والطعميّة والسِمسِميّة والأقاشي.
أما الروائح في الرهد فأمرها أمرٌ آخر. فهي خليطٌ من الدُعَاش، والتردة، وسمك أم كُورُو ومطعم خُوجَلي النَيّل أحيانا وخليطٌ آخر من روائح القَّدُوقَدُو والشّطّة وسوق المحاصيل وعيش فرن الحريري الطازج أحيانا أخرى.
كل ذلك معبوكٌ بروائح روث خيل الكارو، ورمل الشارع، والعنكوليب، وجاز اللواري، وزيت الراجع في الطرف الشمالي والشرقي للسوق. أما في داخل السوق وما جاوره فتحاصرك روائح الجلود المدبوغة، والمِرِس، والرَّوب، والكَوَل، والمُشُك والبَغُو، والوَدَك، والقام زُوت؛ تتزاحم كلها في آنٍ واحد لتشحن الروح بشعور لطيف، كالهمبريب، هو خليطٌ من الطمأنينة وإلفة الدار.
أحببتُها كما لم أحبب مثلها، قبلها أو بعدها. وقد علق بذهني هذا المقطع لشاعر من شعراء الكبابيش (نبهني له الصديق عبيد المقدّم فله الشكر) والذي يبدوا أنّه دَمَرَ فيها موسماً وفارقها حاملاً معه ذكريات عطرة:
إنِي وجَبّادة الشّايل البَرَمْ عِلِّيفُهْ
نجعنا حَلِالي من بَلَد البضوِّي شِنِيفهْ
قَعُويْ سَقَّاي أبُو دَكَنَة المِحَمِّر قِيفُهْ
آه من لٍيمه واواي الأناقيب كِيفُهْ
والقَعوى (القعونح) هو الضفدع. و”سقَّاي أبو دَكنة” هي إشارة لخور أبو حبل وارتباطه بالمدينة والدعوة مقدمة للقراء لمن يود شرح هذه الأبيات الرائعة.
#شخصيات_عامة
وفي زماننا في الرهد هناك في نهاية الستينات وبداية السبعينات كانت المدينة تعج بأنشطة رياضية وثقافية مختلفة. وارتيط الشارع العام في السوق وما حوله بشخصيات فكاهية تجدهم حول المسجد وبجوار المستشفى منهم حاجة حليمة والتي تحاك حولها حكايات وحكايات و”غُراب” والذي كان أطرفهم دون منازع.
أما أعيان المدينة فكان يتقدمهم في جُل المحافل الناظر الطيّب هارون (ناظر الجوامعة ووالد زميلنا هشام وأخوه طارق). كان له حضورٌ وصوتٌ جهور. وكان متحدثا فصيح البيان باللغتين العربية والأنجليزية. ويبدو أنه كان صديقا حميما لناظر مدرستنا المتوسطة (الأميرية) الأستاذ آدم علي آدم أبو سنينة – يجمع بينهما رابط الثقافة والأدب ولحظات الأنس في المساء.
فقد كان أبو سنينة قارئاً نهما وسياسيا مخضرما وشاعرا أيضا. وكان هناك آخرون لهم حضور أيضا مثل ود العوض في سوق الذهب والترزي الأفرنجي عثمان دفع الله ومحمد علي البكري وصديق الحسن صاحب مكتبة صديق والتي عمل فيها حمد البكري أحيانا ومن التجار جعفر عبد الجليل والعاقب سلمان وآل قرشي ومتوكل سعد الله وغزالي والتجاني أحمد البدوي والإخوة حسين وحسن وعبدالرؤؤف حميدة والبصيلي وعلى موسى والشيخ مصطفى عبد الجبار (والد زميلنا أزهري) وحفيد الشيخ عبد الجبار الذي تحمل مقبرة الرهد شرق المدينة اسمه.
ومن أعلام المدينة أيضا الإخوة بدوي وخليل حامد خليل (أشقاء الفريق عبد الماجد حامد خليل) وحسين خليفة وخليل عباس (والد زميلنا معروف) وأحمد ومحمد وعلى اليماني وآل تادْرُس: عزمي وفتحي وصبحي تادرس (والد زميلنا عادل). وعثمان الشيخ وأبا سعيد الحاج (والد عثمان وبكري ) وآل أحمد شونة وعمر سراح وآل الفوّال. وهناك على مدخل حوش السكة حديد على اليسار توجد معصرة الزيوت العتيقة وسوق الحدادين. وهناك ضريح الشيخ العجمي من معالم المدينة أيضا. وأعلم ان قائمة المذكورين أعلاه غير شاملة و لا ينبغي لها أن تكون.
#الزُّول_الزعيم
حفلت المدينة بشخصيات متميزة تم ذكرها في محافل شتى لكرمها الفيّاض ومساهماتها المجتمعية الفريدة يتقدم هؤلاء دون منازع محمد حسين أحمد البدوي (الملقب بالزعيم) عليه الرحمة. فهو شخصٌ حريٌّ بالاحتفاء بسيرته العطرة حيثما وأينما ذكرت المدينة.
فقد شهدت المدينة وشهد أقرانه أنه فقد ثروته كلها في خدمة انسان الرهد ولذا فهو حقيق بلقب “الزول” الكريم الجوّاد. فالرجل كريم وأجواد بل ورجل أمّة تصدر قيادة الخدمة المجتمعية في المدينة كل حياته العامرة حقق فيها انجازات مشهودة في المرافق التعليمية والصحية ولم يبخل عليها بصحته ووقته وماله كله، فاستحق بذلك لقب “الزعيم” الذي عرف به دون منازع.
ولعل مولانا حسين أحمد البدوي، بخدمته الطويلة للمدينة في المرافق الدينية كإمام للمسجد الكبير، والتي فاقت نصف قرن من الزمان، هو نفسه في مقدمة “الأزوال” أهل الكرم في المدينة. وقد جاء في سيرته أنه كان يتصدق بما يملك، على قلته، بل كان يعول سرا بعض المعدمين وطلاب العلم في المدينة.
ولعل المسحة الدينية التي يعبق بها المكان في ذلك الوقت مردها الى الشيخ حسين وانقطاعه الصدوق لخدمة العلم والتعليم الديني في المدينة. فقد كان منزله العامر ومسيده بجوار مدرستنا. بيد أن هناك وجود محسوس لعدة طرق دينية أخرى بخلاف “التجانية” التي ينتمى اليها الشيخ منها القادرية والسمانية والانصار والطريقة الهندية والختمية.
#أزوالٌ_كرماء_في_حقل_التعليم
في حقل التعليم هناك ممن أفنوا عمرهم في خدمة الناس والمجتمع في المدينة أزوالٌ كرماء ممن حملوا مشاعله عقودا من الزمان، تتلمذنا على بعضهم، منهم دون ترتيب الأساتذة: قريب الله أحمد صالح. أحمد محمد الحسن. خديحة محمد الحسن. خديجة كبر آدم. كلتوم الداروتي. آدم محمد آدم. أحمد عيسى الأمير. التجاني تكرور. علي النيّل. السر محجوب. حسن الأمير. التجاني بابكر. محمد كبّاشي (بروفسير محمد كباشي حاليا). حسن أبو كشوّة. عثمان أبو ضفيرة. متوكل نصرالدين. التجاني نصرالدين. قريب الله بخيت. أحمد محمد الجزولي. عبدالرحمن حبيب الله. عبدالرؤف عكاشة. علي حامد. ابراهيم حسن. أحمد حسين. أبو عبيدة سيد أحمد. وغيرهم من رصفائهم ومعاصريهم في مهنة التعليم وما تلاهم من أجيال – فهذه القائمة غير مكتملة بأي حال.
ومعلوم أنّ مجد المدن والحواضر يرتكز، في الأساس، علي العلم والتعليم. فليس هناك أكرم ممن يضحي بوقته وصحته وهو يواظب على تعليم أجيال بعد أجيال. ولو كان للمدينة قولٌ في كيف تكرم هي وكيف يذكر فرسانها وتخلد ذكراهم لقالت، دون مواربة، هؤلاء أولى بالتكريم والمدح . فلكل هؤلاء ورصفائهم وقفة إجلال ووفاء وتبجيل من تلميذ سابق يكن لهم العرفان ويحفظ لهم الجميل؛ فقد كادوا أن يكونوا رسلا أو كما قال الشاعر.
#خاتمة
وبالطبع لا يكتمل الحديث عن المدينة وأهلها دون ذكر الخاص وازجاء التحية لمن جعلوا لمقامنا فيها بُعدا اسريا طيب المذاق. ويأتي في مقدمة هؤلاء الخال بابكر سعد وكرمه. فقد كنا نتحلق حول صينية حاجة مريم، أم أولاده، للغداء في أيام الجمع ورمضان أحيانا. وكان طعامها وافرا وطيّبا وشهيا.
كما أنّ الخال بابكر زول ونّاس يحب حكاوي البلد وأخبار الأهل من أصدقائه وخاصة الخال عوض الجيد (أبو دُومة حرير السُّومة) صديقه ورفيق صباه. وكان هناك أستاذ الأجيال عم أحمد محمد الحسن وبابه المفتوح لكل زملاء ابنائه وكانت له طريقة فريدة في الترحاب تشعر الزائر بأنه من أهل البيت من أول يوم. وكان هناك العم مردس والعمّة آمنة والتي أخذت من صفات وكرم حبوباتنا الكبار الكثير.
وكانت هناك الأم الرؤوم رابحة (رابحة القُمبابة) والتي فاقت الجميع بلطفها وكرمها وروحها المرحة. فقد كانت الزيارات لها والأهل في البر الغربي للمدينة على ضفاف خور أم تَقَرْقر من اشراقات تلك السنوات التي قضيتها في المدينة. كنت أتردد على ديار هؤلاء من وقت لآخر اتسقط أخبار الأهل وأعود للداخلية أكثر حبورا و أوفر طاقة. فلهؤلاء جميعا الشكر وكل الامتنان وإن جاء متأخرا بحوالي نصف قرن! وعلى أرواحهم السمحة الرحمة والغفران.