الأحزاب السياسية السودانية وداعًا يا ظلام الهم…

الأحزاب السياسية السودانية وداعًا يا ظلام الهم…
الإعلانات

متابعات – السلطة نت

وداعًا يا ظلام الهم…

– وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

في سياق الفشل المستمر للأحزاب السياسية السودانية في استثمار سقوط نظام البشير، يبرز مشهد جديد يكشف عن استمرار هذه القوى في التلاعب بالحقائق لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة. تصريحات مبارك الفاضل رئيس حزب الأمة الإصلاح والتجديد، اول أمس للجزيرة مباشر حول أطروحات مزعومة تقدمت بها قيادة البلاد للمجتمع الدولي، والتي تتضمن قبول دور محدود لحميدتي ورفض أي دور لعبدالله حمدوك، تسلط الضوء على مدى التخبط والانتهازية السياسية و الحزبية الذي تعيشها البلاد.

فبينما تتهم القوى السياسية الجيش بالسعي لحكم شمولي، تتجاهل حقيقة أنها نفسها عجزت عن تقديم رؤية موحدة أو قيادة وطنية حقيقية ، مكتفية بمحاولة تشويه الخصوم وتزييف الوعي الجماهيري . هذا التناقض المستمر، الذي يقوم على الكذب والتضليل، لا يعكس سوى أزمة سياسية ممتدة تعيق أي أفق للانتقال الديمقراطي الحقيقي في السودان.

لطالما شكلت العلاقة بين الأمن والديمقراطية معضلة فلسفية عميقة، حيث يتردد السؤال الأبرز:أيهما أولى في لحظات التحولات الكبرى، استقرار الدولة أم حرية الاختيار؟ في السياقات المثالية، يُنظر إلى الديمقراطية بوصفها الطريق الأمثل لحكم الشعوب، حيث يكون المواطن هو صاحب القرار الأوحد، يختار قادته وفق إرادته الحرة. لكن حين تضع الأزمات الحادة الدول أمام تحديات وجودية، تنقلب الأولويات فتتراجع الأيديولوجيات الحالمة، وتبرز الضرورات العملية التي تجعل الأمن والاستقرار قيمة تعلو على كل ما عداها.

عقب سقوط نظام البشير في 2019، كان الحلم الديمقراطي حاضرًا بقوة في وجدان السودانيين، لكنه اصطدم سريعًا بواقع سياسي مليء بالتناقضات. لم تكن المشكلة في فكرة الديمقراطية ذاتها، وإنما في ممارستها المرتبكة من قبل القوى السياسية التي بدت عاجزة عن إدارتها بمسؤولية. فقد أضاعت الأحزاب فرصًا ثمينة لبناء نموذج ديمقراطي مستقر، وانشغلت بصراعاتها الصفرية، حتى أصبحت الديمقراطية ذاتها عبئًا على الدولة بدلًا من أن تكون وسيلة لبنائها.

وعندما اختارت هذه القوى، في لحظات ضعفها، الارتماء في أحضان التدخلات الخارجية، واستقدمت بعثة أممية بدعوى المساعدة، ثم حاولت فرض دستور ” المحامين” صيغ خارج إرادة السودانيين، بجانب اتفاق إطاري معزول، بات واضحًا أن الأمر لم يعد يتعلق بالديمقراطية، وإنما بمصادرة القرار الوطني لصالح أجندات استعمارية لا تخدم البلاد.

نحن اليوم أمام معادلة جديدة تجعل الأمن أولوية، في التاريخ السياسي للأمم، لطالما أظهرت الشعوب ميلًا فطريًا نحو السلطة القوية حين تواجه خطر التفكك. فالأمن هو الأساس الذي تقوم عليه الحضارات، ومن دونه تفقد الدولة وظيفتها الأساسية في حماية مواطنيها. ففي لحظات الفوضى، يدرك الناس أن الحرية دون نظام تحكمه ضوابط مؤسسية تتحول إلى فوضى، وأن الديمقراطية في غياب الدولة القادرة على فرض سلطتها تصبح مجرد شعار لا معنى له هذه المقاربة الفلسفية تحتاج إلى وعي متجاوز أطماع الأحزاب في سلطة لا يبذلون لأجلها الحرص على أمن البلاد أو مواطنيها.

في العام 2011 عانت مصر من حالة اضطراب سياسي وأمني غير مسبوقة، حيث أدت الخلافات الحادة بين القوى السياسية إلى حالة من الانقسام والصراع، ما تسبب في تراجع الاقتصاد وتنامي التهديدات الأمنية. ومع وصول البلاد إلى حافة الفوضى، جاء تدخل الجيش في 2013، حيث تم فرض خارطة طريق تركز على إعادة الاستقرار أولًا، قبل العودة إلى المسار الديمقراطي عبر انتخابات رئاسية وتشريعية لاحقة. واليوم رغم اختلاف الآراء حول تفاصيل ما حدث ، إلا أن مصر تمكنت من استعادة الأمن وبناء اقتصادها، مما يبرز أهمية التوازن بين الاستقرار والحرية.

كذلك رواندا بعد الإبادة الجماعية في 1994، أدركت القيادة الرواندية إن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تبدأ من الديمقراطية التعددية المباشرة، بل من فرض الاستقرار أولًا، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، ثم التوجه لاحقًا نحو انفتاح سياسي تدريجي. اليوم تعد رواندا واحدة من أسرع الدول نموًا في إفريقيا، وذلك بسبب تقديمها لمفهوم “الأمن أولًا” كشرط أساسي للتنمية والديمقراطية .

على المستوى الدولي، تقدم الصين نموذجًا مختلفًا، حيث نجحت في تحقيق نهضة اقتصادية هائلة دون تبني ديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي. فالحزب الشيوعي الصيني حافظ على سيطرته على الحكم، لكنه في المقابل وفر استقرارًا سياسيًا سمح بتحقيق تنمية غير مسبوقة، مما جعل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم. هذه النماذج تطرح تساؤلًا مهمًا حول مدى ضرورة الديمقراطية بصيغتها التقليدية لتحقيق التنمية، أم أن الاستقرار المؤسسي قد يكون هو العنصر الأهم في بناء الدول؟

بناءً على هذه المعطيات، لم يكن غريبًا أن تفقد الأحزاب السياسية ثقة السودانيين، الذين باتوا يرون في الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على إعادة التوازن للدولة. فبحسب الوثيقة الدستورية للعام 2025، فإن الجيش مطالب بقيادة البلاد في هذه المرحلة وفق رؤية جديدة، لا تقوم على استنساخ تجارب الماضي، بل تؤسس لحكم رشيد يضع الأمن والاستقرار في مقدمة الأولويات، تمهيدًا لمرحلة ديمقراطية حقيقية، لا تُختطف فيها الدولة من قبل نخب فاشلة أو مليشيات منفلتة.

وداعًا يا ظلام الهم… ومرحبًا يا صباح السودان ، ليس المطلوب اليوم إعادة إنتاج الدكتاتورية، كما يروج البعض، بل تحقيق معادلة جديدة تضمن استقرار الدولة دون مصادرة مستقبل الديمقراطية. فكما أن الأمن بلا حريات يقود إلى القمع، فإن الحرية بلا أمن تقود إلى الفوضى، وبين هذين الحدين، تحتاج الدولة إلى مرحلة انتقالية متماسكة، تعيد بناء مؤسساتها، وتؤسس لإقتصاد منتج، وتجهز البلاد لانتخابات حقيقية خلال 39 شهرًا، يتمكن فيها الشعب من ممارسة حقه في الاختيار، ولكن في بيئة آمنة ومستقرة. هذا هو وجه الحقيقة.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 4 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com

 

 

شارك هذا الموضوع :

Verified by MonsterInsights