بناء الدولة السودانية والتحديات

بناء الدولة السودانية والتحديات
الإعلانات

بناء الدولة السودانية والتحديات

متابعات – السلطة نت

بقلم : نجم الدين دريسة

واحدة من أبرز التحديات التي تواجه بناء الدولة السودانية القومية ما يمكن أن نسمّيه أو نطلق عليه (أزمة العقل العشائري)، أو ما يسميها الدكتور النور حمد بـ(العقل الرعوي). المصطلحان متصلان موضوعيًا، ولكن ربما الفارق بينهما هو فارق مقدار، وليس فرقًا في النوع.

من المؤكد أن هذه المجتمعات العشائرية في أزمة عميقة تتعلق بالتعاطي مع الحداثة بأدوات وقيم البداوة، وهذا يخلق “صدمة الحداثة”. وبما أن الحداثة نفسها واحدة من أكثر الظواهر تأثيرًا على المجتمعات السودانية، وقد أدت بالطبع إلى تحولات جذرية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، فبدلًا من استيعاب التحولات بطرق إيجابية، خلقت حالة من الفوضى والارتباك، خاصة وأن رصيدهم المعرفي والثقافي لا يمكن أن يستوعب القوالب والمفاهيم الحداثوية المتعلقة بالحكم الراشد، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمواطنة. وبالتالي، صار التعامل مع هذه القضايا يعتمد فقط على ردود أفعال انفعالية، مما يجعل المجتمعات العشائرية في أزمة عميقة.

 

لذا، نجد أن هناك ضرورة ملحّة لتعزيز ثقافة التفكير النقدي لكي يساعد على استيعاب هذا الواقع والعمل على طرح رؤى وإطلاق حوارات معمقة وعريضة حول قضايا المعاصرة، بدلًا من الانكفاء على التراث، والانخداع في أقمصة حديد ماضوية، وبالتالي السعي لإفراد مساحات أوسع للقوى الناهضة التوّاقة للحداثة من الشباب والمرأة، ليكون لهم أدوار فاعلة في قيادة هذه المجتمعات، ليس بالتخلي عن إرثهم الثقافي التقليدي، ولكن بتبني ماكينات جديدة تهدف إلى إعادة تشكيل هويتهم، وتعزيز التفكير النقدي للتطلع نحو ريادة آفاق مستقبل جديد.

 

أشار الفيلسوف عبد الرحمن ابن خلدون منذ القرن الرابع عشر الميلادي في كتابه المقدمة إلى مسألة البداوة والحضر، ومن وجهة نظر شخصية، أعتقد أن حديثه لا يزال صالحًا في عصرنا الحالي، لأن العشائرية بقيمها الرعوية في حالة تضاد مع مفهوم الدولة وقيمها ونُظمها الحداثوية. فهو قد استوعب طبيعة هذه المجتمعات، حيث أشار إلى أنهم إذا تغلّبوا على أوطانهم أسرع إليها الخراب، وأنهم لا يتغلبون إلا على البسائط، على حد تعبيره. المطلوب من العقل العشائري العمل على دحض هذه الرؤية، لأن دلالاتها تبدو حاضرة بقوة، فواقعنا العشائري لم تغيّر فيه الحداثة المظهرية من بنيته العقلية، الأمر الذي سيعطّل تمامًا بناء الدولة الحديثة ما لم نتخلص من القيود والأثقال التاريخية القبلية.

 

إن نزعة الإرضاء العشائروي، في كثير من الأحيان، تجعلهم يضيقون ذرعًا بالرأي الآخر، وتُصيبهم حالة من الانتشاء الزائف والانكفاء على الذاتوية، بادّعاء امتلاك الحكمة والتميّز والتفرّد عن الآخرين. وبالطبع، فإن التحديث والتطور والتقدم، وكل هذه المعاني العصرية، لا يمكن أن تتموضع مع التراث والعقل العشائري، لأن السواد الأعظم منهم، على الأقل فكريًا، ينصاعون لسلطة العقل الجمعي، وتظهر حماسة دائمة ليست ذات قيمة، ويعملون على ترديد الموروث الثقافي الساذج والمناقض أصلًا لمفهوم الحداثة. وبالتالي، تكون نزعة إرضاء العشيرة أو القبيلة أو الإثنية المحددة، وفقًا للأنماط التي سردناها، تسلب العقل الفردي الحياد والاستقلالية وحتى الموضوعية. والمؤسف أن هذا العقل، للأسف، يعطي نفسه مشروعية في الخوض في الأشياء بلا أدنى أدوات معرفية، الأمر الذي يعقّد من الأزمة السياسية، ويجعل عملية التحول عصيّة التحقّق.

 

وبما أن طيفًا واسعًا من مجتمعاتنا السودانية هو مزيج من البداوة القائمة على العشائرية والقبلية، وأيضًا التصوف القائم على الخرافة، فبالرغم مما يتميز به مجتمعنا السوداني من قيم التكافل، إلا أن الشخصية السودانية تعاني من حالة اللامبالاة والاتكالية. هذه الازدواجية جعلت منا مجتمعًا عاجزًا، غير قادر على ترسيخ وتجذير الأبنية الحداثوية، وتوظيف الموارد لصالح الشعوب السودانية.

 

 

 

شارك هذا الموضوع :

Verified by MonsterInsights