بعد .. و .. مسافة* *مصطفى ابوالعزائم* *العطا والندم على حل هيئة العمليات .. !*
*بعد .. و .. مسافة*
*مصطفى ابوالعزائم*
*العطا والندم على حل هيئة العمليات .. !*
تحدّث إليّ بالأمس وراسلني أكثر من أخ وصديق ، معايدةً أو معاودة هاتفية لمريض منذ يوم السادس والعشرين من أبريل الماضي ، زادت أزماته بسبب الحالة النفسيّة السيئة بسبب الحرب ، وتشتت أفراد الأسرة الذين توزعوا مابين أربجي والحصاحيصا وودمدني ورفاعة في ولاية الجزيرة ، ومابين ولايات نهر النيل والشمالية والبحر الأحمر ، مع تردّ عام في كل مناحي الحياة ، ولكن دائماً ما يكون هناك أمل ، ورغم المعاناة بسبب المرض ، وصعوبة الحركة ، إلا أن زيارة معايدة قام بها الفريق أول ركن ياسر العطا لمتحرك الكرامة التابع لجهاز المخابرات العامة ، وتصريحاته لمنسوبي جهاز المخابرات العامة التي اعرب فيها عن ندم القيادة وأسفها الشديد على التفريط في هيئة العمليات وتحجيم دور الجهاز ، أعادت الأمل إلى الكثيرين بأن الأخطاء يمكن تدارك نتائجها السالبة ولو بعد حين .
سبق لصاحبكم أن حذّر عدة مرات من الوقوع في خطأ حل أجهزة الأمن والمخابرات التي تعمل على تأمين الدولة لا تأمين نظام الحكم ، ويشهد على ذلك إرشيف الصحف عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ ، وكان آخر مقال في هذا الاتجاه أواخر يناير من هذا العام ، وكنا نحذّر من مغبة هذا الفعل ، وأجد نفسي أعيد نشر ذلك المقال الذي كان قراءة لما سوف يؤول إليه حال البلاد والعباد ، وقد جاء ذلك المقال كما يلي :
*الأمن المطلوب .. والخوف المطلوب .. !*
أرجو ألا نعجب من العنوان أعلاه ، ونحن الآن في أمس الحاجة للأمن العام ، وفي حاجة إلى إخافة كل من يتربص بنا وببلادنا شرّاً ، ونكتب عن هذا الأمر وما زالت الذاكرة تحتفظ بذكرى يوم السابع من أبريل 1985م ، أي بعد يوم واحد من إنحياز القوات المسلحة السودانية الى الإنتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام حكم الرئيس الراحل المشير جعفر نميري في السادس من أبريل ، حيث لم تمض أربع وعشرين ساعة ، حتى إستجاب المجلس العسكري برئاسة المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب _ رحمه الله _ وقتها لضغوط خصوم النظام من محترفي العمل السياسي ، ومن مخالفيه فكرياً ، وقد أججوا الشارع من خلال الشعارات العدوانية لكل ما له صلة بالدولة بزعم أنه صنيعة مايوية ؛ وكانت إستجابة المجلس العسكري سريعة دون تروٍّ ولا دراسة ، إذ أصدر قراراً بحل وتصفية جهاز أمن الدولة ، ومضى إلى أبعد من ذلك بإصدار قرار قضى بإعتقال ضباط جهاز الأمن والزج بهم في السجون .
ما أشبه اليوم بالبارحة ، الآن تمارس ضغوط ظاهرة وخفية لأجل تصفية أجهزة الأمن والمخابرات بدعاوي عديدة منها إعادة الهيكلة ، ومنها تحديد الصلاحيات وغير ذلك من حجج ومزاعم ، والقصد واضح ومعروف ؛ ويكفي ما حدث من إختراقات نتيجة ذلك القرار الخاطئ عقب الإنتفاضة ، والذي نتج عن ضغوط بعض الساسة من أصحاب الحناجر العريضة والحلاقيم الكبيرة ، وكثير منهم كانت له أسبابه الخاصة ودوافعه الحزبية التي لا تراعي حرمة الوطن ولا المواطن .
نكاد نعيش ذات الأجواء بعد نحو أربعين عاماً ، من خلال ذات المطالبات التي تدعو لذات الغرض بإسم إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية من جيش وشرطة وأجهزة أمن ، ومحاولة فرض هذا الأمر على كل منابر التفاوض بين الحكومة والحركات المسلحة والاحزاب والقوى السياسية التي حاربت نظام الإنقاذ وناوأته سنين عدداً ، لم تكسب خلالها خيراً ، بل خسرنا الأرواح الغالية والممتلكات وأهدرنا الموارد ولم نكسب إلا ضعف الدولة ومؤسساتها .
تعتبر أجهزة الأمن في بلادنا من الأجهزة القديمة ، لكنها لم تكن مستقرة طوال تاريخها ، وقد تأسس أول جهاز للأمن في العام 1898م بعد الغزو البريطاني لبلادنا ، إذ رأت الإدارة البريطانية أهمية إنشاء جهاز أمن متخصص لمواجهة مخاوفها من تجدد الدعوة للمهدية ، وهو ما حدا بالسكرتير الإداري البريطاني إلى إنشاء جهاز تحت إدارته ، أطلق عليه إسم القِسم المخصوص ، لمتابعة كل ما يهدد نظام الحكم وقتها ، ومع زيادة الوعي بين المواطنين تم التوسع في عمل هذا الجهاز الإستخباري ، وأصبحت هناك إدارة مختصة بعد الإستقلال في وزارة الداخلية من مهامها الرقابة على الصحف ، ومتابعة أنشطة بعض الأحزاب خاصة الحزب الشيوعي السوداني ، وما يسمى بالأنشطة الهدامة ، وعندما إنقلب العقيد أركان حرب جعفر محمد نميري رحمه الله على الديمقراطية الثانية في الخامس والعشرين من مايو 1969م مسنوداً باليسار ، و ما يُسمّى بالقوى الثورية والنقابات ، تم تكليف الرائد فاروق عثمان حمدلله رحمه الله ليكون وزيرا للداخلية ، وتمّ تعيين زيادة ساتّي رئيساً لجهاز الأمن يعاونه إثنان هما محمد أحمد سليمان ، وعبدالعظيم محمد عبدالحفيظ ، وأُوكِل لهما مسؤولية العمل الميداني والعمليات ، لكن الأمر لم يستمر كثيراً ،وحدث أن قام اليسار نفسه بالإنقلاب على الرئيس نميري ، في 19 يوليو عام 1971م ، ليتم فصل الأمن الداخلي عن وزارة الداخلية ، تحت مسمّىً جديد هو الأمن العام برئاسة السيد عبدالوهاب إبراهيم – رحمه الله – بدرجة وزير وقد جلستُ إليه عدة مرات خلال الأعوام القليلة الماضية ، وإستمعت منه للكثير وتمّ النشر في صحيفة أخبار اليوم التي كنت مستشاراً للتحرير فيها ، ومسؤولاً عن إصدار عددها الأسبوعي ، وعرفت من الرجل أنه أجرى تعديلاتٍ كبيرة في أساليب العمل .
أما بالنسبة لإنشاء جهاز الأمن القومي فقد أُنْشئ أواخر العام 1969م بإشراف تام من الرائد مأمون عوض أبوزيد عضو مجلس قيادة الثورة ، وقد كان أحد منسوبي المخابرات العسكرية المميزين ، وكانت البداية من خلال مًسمّيينْ هما الأمن القومي والأمن العام ، لكن تم دمجهما عام 1978م ، تحت مسمىً جديد هو جهاز أمن الدولة ، وقد ضمّ عدة إدارات وأقسام ، مثل القسم السياسي وقسم المخابرات الخارجية ، والقسم الفني ، وقسم المراقبة ، وأقسام أخرى مثل التحرّي والسجلات والمعلومات والإدارة القانونية والشؤون المالية والإدارية .
كان جهاز أمن الدولة من أوسع أجهزة المخابرات نشاطاً في المنطقة والإقليم ، لكنه وبموجب القرار رقم ( 5 ) الصادر من القيادة العامة للقوات المسلحة ، أصبح في( خبر كان ) وتولت القوات المسلحة حراسته وحصر ما به من أسلحة وأجهزة إتصال داخلية وخارجية وكثير من المعدات والوثائق والمحفوظات ، لتبدأ مرحلة جديدة بعد إيداع كثير من ضباط جهاز أمن الدولة سجن كوبر ، لتبدأ مرحلة جديدة لاحقاً بإنشاء جهاز الأمن الوطني في عهد النّظام السّابِق لتولّي ملفات الأمن الداخلي ، وانشاء جهاز المخابرات الذي كان مكلّفاً بالأمن الخارجي ، إلى أن تم دمج الجهازين في جهازٍ واح د وتحت إدارةٍ واحدة بإسم جهاز الأمن والمخابرات الوطني .
ترى هل ما حدث عام 1985 م يمكن أن يحدث الآن بعد أن تم تسميته بجهاز المخابرات العامة… ؟ لا نرى إن ذلك يمكن أن يحدث الآن ، وإلا نكون قد وقعنا في الخطأ مرّتين .. ولا يُلدغُ المؤمن من جحر مرتين .
Email : sagraljidyan@gmail.com