عندما تبارت الأسافير حول الأحاديث عن التلاعب في كميات الإغاثة التي وصلت بورتسودان وبيعها في الأسواق الداخلية والخارجية، وعندما أشارت أصابع الاتهامات إلى مسؤولين بعينهم طالتهم تهم التلاعب بمواد الاغاثة .. صمت المسؤولون وصمت معهم زملاء صحافيون تحتضنهم المدينة الجميلة كتفاً بكتف مع ذات المسؤولين..
(2)
لم أكن اتوقع أصلاً أن يتصدى المسؤولون الذين أُشير إليهم في معرض الإتهام، ولم أكن اتوقع أصلاً أن يغضبوا لِمَا أثير حولهم لأننا تعودنا منهم ذلك “الطناش” لعقود من الزمان عندما كانوا في الخرطوم ، لكن مابال الزملاء الذين امتلأت بهم بورتسودان ، فلم نقرأ لهم تحقيقاً، أو تقريراً أو خبراً أو مقالاً طوال تلك الفترة التي شهدت تصاعد الاتهامات واللغط والقيل والقال وخاصة أنهم في موقع الحدث..
حتى بعد ما شهدنا معتمد الرئاسة السابق بولاية الخرطوم الفريق أحمد التهامي يقول:(بعض الإغاثة دخلت السوق والبعض الآخر تَلِفَ) وهو يتحدث عن عشرات الشاحنات مكدسة غرب قريتهم لأكثر من شهر وتقيم السلطات عليها الحراسة…ولعل في هذا (الاحتجاز) نظر وأسئلة وعلامات استفهام، فلماذا يتم احتجاز الشاحنات لأربعين يوماً وأكثر بالعراء بينما النازحون يعتصرهم العوز والحاجة والمعناة.
(3)
كثُر الحديث وتصاعدت الاتهامات حول التلاعب بمواد الإغاثة إذ سمعنا الكثيرين يتحدثون في تسجيلات صوتية تشير إلى وصول مواد اغاثية تشمل حتى الأواني المنزلية، وأجهزة الطاقة الكهربائية والخيام الفاخرة المجهزة بكل وسائل الراحة، وكل مانعتبره عندنا هنا من الرفاهيات مثل الحلوى الفاخرة والعجوة واللبن ونحوهم، فهذه كلها بحسب المتحدث لم يصل منها لأيدي المنكوبين سوى القليل من الدقيق والعدس والزيت بينما يتحدثون عن وصول حتى المبيدات الحشرية لمكافحة النواقل..فأين كل أنواع المساعدات والإغاثات التي وصلت بورتسودان؟..
هذا السؤال بحاجة لإجابة المسؤولين المعنيين بالأمر حتى يبرئون أنفسهم من الاتهامات وينظفون سمعتهم من الدنس الذي ألمّ بها إن كانت سمعتهم تهمهم..وإلا فأن مايهم الناس هو معرفة الحقيقة وحسب.
(4)
في زمن الحروب والأزمات التي تحدث في ظل الأنظمة الشمولية عادة ما تتشكل (حصانة ) وهمية للمسؤولين عن أي عمل عام في الدولة والمجتمع حتى لو كان طوعياً.. هذه (الحصانة) المنسوجة من خيوط الفساد، والمتصلة مع بعضها تحول دون المساءلة والمحاسبة، حتى مجرد الإشارة إلى التقصير والإهمال كفيل بوضع صاحبه في خانة العمالة والخيانة وإن كان يتنفس الوطنية..
فإن أنت أشرت إلى فساد أو اختلال أو تشوهات في زمن الكوارث والحروب ولو على مستوى الجمعيات والمنظمات الطوعية، فإن إشارتك هذه كفيلة أيضاً بإثبات خيانتك.. لتصبح المعادلة إما أن (تصفق) وتبارك الفساد أو تصمت وإلا فلا مجال لنقد أو إشارة لتقصير أوفشل ..لأن الحصة (وطن)..ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. للأسف هذه فزاعة أو (خدعة) يستخدمها الفاسدون والانتهازيون لتغطية فسادهم وللإفلات من المحاسبة ،أما الأغبياء والسُذج وناس باركوها فتنطلي عليهم هذه الخديعة الماكرة فتسمعهم يرددون بلا وعي:(معليش لأن الظروف استثنائية، ودا ما وكتو) فيتعاملون مع الفاسدين كالتعامل مع الابن المدلل ولهذا يفرح جهابذة الفساد بالكوارث والحروبات والنزاعات والظروف الاستثنائية والطواريء كما يفرح الدجاج بيوم (الكيل) والحصاد، لكونها – اي الكوارث – توفر لفسادهم الغطاء وتصنع لهم المبررات الواهية وترجعها على “اللغف” فيودون لو أنها تستمر .
(5)
في زمن الحروب يكثر الضباب والغموض ويتشكل مناخاً مظلماً لممارسة الفساد ومشجعا له لكون أجهزة الدولة كلها تكون كالسهام في كنانة واحدة على أرض المعركة حيث لاصوت يعلو فوق صوت المعركة…سواءً أكانت معركة ضد عدوء بالداخل أو الخارج أو معركة ضد السيول والفيضانات أو معركة ضد وباء قاتل.. وفي هذه الأثناء تتخلى
السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن مهامها الاساسية ولا احد يحاسب أحداً لأن الجميع يصوبون أنظارهم نحو “المعركة” وتحت غبارها يفعل بنا الانتهازيون وتجار الأزمات ما يحلو لهم…
من هنا فقط وتحت غبار “المعركة” يتوالد الانتهازيون ويتناسلون ويكثرون يعيشون تحت أجنحة ظلام المعركة و(نقعها) المتناثر وغبارها المخيم على الرؤوس يمارسون هواياتهم وطبائعهم الثعلبية يستغلون الوضع غير المواتيء للمحاسبة..
(6)
أعود وأقول الظروف الاستثنائية والحروب والكوارث والأزمات الطاحنة لاتبرر الفساد ولاتمنع المحاسبة بل يجب أن تحفز على المحاسبة، لأن الفساد بكل ضروبه هو الذي يصنع الأزمات والكوارث والحروب، فلاينبغي أن نكافئه في ازمانها بالصمت عنه والتربيت على كتفه بل يتوجب التشديد على محاسبته والتضييق عليه لضلوعه في صناعة الكوارث والازمات بكل انواعها ولأنه المسؤول عنها بأية حال…اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.