تحرير بلا دولة : ماذا فعل الجيش بأهالي الجزيرة ؟

تحرير بلا دولة : ماذا فعل الجيش بأهالي الجزيرة؟
متابعات – السلطة نت
– سارة السعيد
في يناير 2025، رفع الجيش السوداني علمه مجدداً فوق مباني ود مدني، في لحظة وُصفت بـ”استعادة السيادة” على ولاية الجزيرة، بعد انسحاب قوات الدعم السريع. لكن هذا الإعلان، بما رافقه من طقوس خطابية ونقل إعلامي مباشر، أخفى واقعاً أكثر قتامة: واقع انتهاكات ميدانية جسيمة في القرى والمزارع المحيطة، خصوصاً في مجتمعات الكنابي التي تم التعامل معها بوصفها “جسداً غريباً” في وطن يزداد مركزية واستبعادية. ما جرى لم يكن استعادة للدولة، بل إعادة تنظيم للعنف في إطار رسمي، دون مسائلة أو مراجعة.
النظر إلى ما حدث من منظور الدولة الحديثة كفاعل سيادي، كما تناول ذلك تشارلز تيلي في دراسته الشهيرة عن “صناعة الحرب وصناعة الدولة”، يسمح بفهم أن ما جرى لم يكن تجاوزاً، بل استئنافاً لوظيفة العنف بوصفه أداة لإعادة إنتاج السلطة. الجيش لم يملأ فراغاً، بل أنشأ تحالفات جديدة مع ميليشيات محلّية على رأسها “درع السودان”، وهي جماعة لا تحظى بشرعية قانونية، لكنها فاعلة ميدانياً في تمشيط القرى وفرض منطقها الأمني والاجتماعي.
التقارير الميدانية تشير إلى تنفيذ عمليات قتل وتهجير ضد سكان الكنابي في قرى مثل رونغا، حلة فور، وأم شوكة. التهم الموجهة لهم لم تكن جنائية أو قضائية، بل وجودية: “أنتم غرباء”، “أنتم طابور خامس”.
هذا النمط من الاستهداف يلتقي مع ما يسميه الباحث محمود مأمون بـ”السياسات الإثنية المقنّعة”، حيث تتحول الفئات غير المُمثلة إلى أهداف سهلة للدولة أو من ينوب عنها. تم حرق منازل، تجريد من وسائل الإنتاج الزراعي، واختفى مئات من دون مساءلة.
الملفت أن الدولة، في خطابها، لم تتطرق لهذه الوقائع، بل احتفلت بـ”تحرير المدينة” وكأن القرى المجاورة ليست سوى تفصيل لا يستحق الذكر. هذا التواطؤ الرمزي يعكس ما يسميه بيير بورديو “العنف الرمزي” للدولة، حين تُشرعن الإقصاء بالسكوت، وتُضفي على القمع طابعاً طبيعياً.
وهكذا، تحوّلت ود مدني إلى مسرح للانتصار التلفزيوني، بينما باتت أطرافها مجالاً لصراع خفي على إعادة ترسيم الشرعية الديمغرافية.
في هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن تبدأ مجتمعات الكنابي بتشكيل لجان دفاع ذاتي، وشبكات إغاثة غير رسمية. بدأت تظهر خرائط بديلة للتمثيل، لا ترتكز إلى ترخيص رسمي، بل إلى شرعية البقاء والصوت.
وهذا ما يمكن وصفه – استعارةً من فوكو – بـ”تمرد الهامش على الجسد السيادي”، حين تنتج الجماعة المهمشة سرديتها، وثقافتها السياسية، ومشروعها الذاتي للحماية، في غياب الدولة أو ضدها.
الأخطر من كل ذلك، هو ما بدا من وجود إرادة لإعادة تشكيل الخريطة السكانية عبر التهجير القسري الممنهج. هذه الممارسة لا يمكن فصلها عن منطق “الهندسة السياسية العنيفة”، حيث تُعاد كتابة الجغرافيا بالدبابات، وتُستبدل المجتمعات غير المنسجمة مع السلطة بأخرى أكثر طواعية أو توافقاً إثنياً. وهنا، لم يعد الجيش فاعلاً أمنياً، بل أداة لخلق واقع اجتماعي جديد من خلال العنف المنظم.
لم يكن دخول الجيش سوى إعادة تدويرٍ للعنف في يد السلطة الرسمية، بعد انسحاب فاعل كانت ممارساته محل استهداف دائم، لتتحول أدوات القمع نفسها إلى أدوات للدولة، لكن هذه المرة في غياب كامل للمساءلة.
بناءاً عليه، فإن ما جرى في ولاية الجزيرة لا يرقى إلى مستوى “التحرير”، لا من الناحية القانونية، ولا من منظور الحقوق. بل هو تحوّل في ملكية السيطرة دون انتقال فعلي في القيم أو المفهوم السياسي للدولة. إذ لم يُفعّل القضاء، ولا أعيدت الحياة الاقتصادية، ولا استُوعبت المجتمعات المتضررة في أي مشروع وطني جامع.
في ضوء ذلك، يصبح الحديث عن “السيادة” مسألة نظرية. فالدولة لم تبسط سلطتها، بل فرضت سطوتها. والسيادة، بحسب منطق الحداثة السياسية، لا تُقاس بالخرائط بل بقدرتك على ضمان الحقوق، الحياة، والحماية. وفي الجزيرة، لم يبقَ من ذلك سوى الصمت، والدخان، وأجساد تُدفن في القرى، بلا أسماء.
شارك هذا الموضوع